كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



(4) الرَّأْيُ الرَّابِعُ: أَنَّ (دَارَ الْإِسْلَامِ) قِسْمَانِ: (الْأَوَّلُ) مَهْدُهُ وَمَشْرِقُ نُورِهِ وَمَصْدَرُ قُوَّتِهِ، وَمَوْطِنُ قَوْمِ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَهُوَ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ. (وَالثَّانِي) بِيئَةُ حَضَارَتِهِ الْعَرَبِيَّةِ وَمَظْهَرُ عَدَالَتِهِ التَّشْرِيعِيَّةِ، وَيَنْبُوعُ حَيَاتِهِ الِاقْتِصَادِيَّةِ، وَهُوَ سُورِيَةُ الشَّامِلَةُ لِفِلَسْطِينَ، وَالْعِرَاقِ الْعَرَبِيِّ، وَمِصْرَ وَإِفْرِيقِيَّةَ، وَهَذِهِ الْأَقْطَارُ هِيَ الَّتِي عَمَّتْ فِيهَا لُغَةُ الْإِسْلَامِ الْعَرَبِيَّةُ، وَرَسَخَتْ فَنَسَخَتْ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ لُغَاتٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ سُكَّانِهَا الْأَصْلِيِّينَ مِنَ السَّلَائِلِ الْعَرَبِيَّةِ الَّذِينَ تَغَلْغَلُوا فِيهَا مِنْ عُصُورِ التَّارِيخِ الْأُولَى، فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأَجْنَاسِ الْبَشَرِيَّةِ وَلُغَاتِهَا شَكٌّ فِي أَنَّ الْفِينِيقِيِّينَ سُكَّانَ سَوَاحِلِ سُورِيَةَ الْأَوَّلِينَ الْمُعَمِّرِينَ- مَنْ عَرَبِ سَوَاحِلِ الْبَحْرَيْنِ وَنَجْدٍ- وَأَنَّ امْتِزَاجَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِالْهِيرُوغْلِيفِيَّةِ الْقَدِيمَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قُدَمَاءَ الْمِصْرِيِّينَ وَالْعَرَبَ مِنْ عِرْقٍ وَاحِدٍ إِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ عِرْقَيْنِ امْتَزَجَا وَاتَّحَدَا مُنْذُ أُلُوفِ السِّنِينِ.
وَلَكِنَّ الْمِصْرِيِّينَ قَدْ رَسَخَتْ فِي زُعَمَائِهِمُ الْمَدَنِيِّينَ عَصَبِيَّةُ الْوَطَنِيَّةِ فَلَا مَجَالَ الْآنَ لِمُطَالَبَتِهِمْ بِعَمَلٍ سِيَاسِيٍّ لِإِعَادَةِ دَارِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ مُقَاوَمَتِهِمْ لِمُؤْتَمَرِ الْخِلَافَةِ الَّذِي عَقَدَهُ عُلَمَاءُ الْأَزْهَرِ، وَبَعْضُ أَهْلِ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَحَسْبُ الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ إِعْلَاءُ شَأْنِهِ بِإِحْيَاءِ لُغَتِهِ وَعُلُومِهِ وَهِدَايَتِهِ. فَانْحَصَرَ الرَّجَاءُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنْ سُورِيَةَ وَالْعِرَاقِ اللَّذَيْنِ يَعُدُّهُمَا بَعْضُ النَّاسِ مِنْهَا.
دَارُ الْإِسْلَامِ الدِّينِيَّةُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ:
أَوْجَبَ الْإِسْلَامُ أَنْ تَكُونَ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ دَارَهُ الدِّينِيَّةَ الْمَحْضَةَ، فَقَضَى عَلَى مَا كَانَ فِيهَا مِنَ الشِّرْكِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ، كَمَا بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَأَهَمُّهَا وَصِيَّتُهُ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِإِخْرَاجِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْهَا، وَبِأَنْ لَا يَبْقَى فِيهَا دِينَانِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ بِأَنَّ ثُغُورَ الْحِجَازِ الْبَحْرِيَّةَ، وَمَا يُوجَدُ فِي بَحْرِهِ مِنَ الْجَزَائِرِ لَهُمَا حُكْمُ أَرْضِهِ وَبِلَادِهِ، فَلَا يَجُوزُ لِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ وَسُلْطَانِهِمْ أَنْ يُمَكِّنَ أَحَدًا مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِقَامَةِ فِيهَا لِتِجَارَةٍ وَلَا لِغَيْرِهَا. وَقَدْ ظَهَرَ لِمُسْلِمِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ حِكْمَةِ الْإِسْلَامِ فِي هَذَا مَا لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ بِبَالِ دُوَلِهِمُ الْقَوِيَّةِ مِنْ قَبْلِهِ الَّتِي تَسَاهَلَتْ وَقَصَّرَتْ فِي تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَسَمَحَتْ بِبَقَاءِ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي بَعْضِ بِقَاعِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ (كَالْيَمَنِ) ثُمَّ بِوُجُودِ بَعْضِهِمْ فِي (جُدَّةَ) وَهِيَ مِنَ الْحِجَازِ.
ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّ أَسَاسَ السِّيَاسَةِ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ بَيْنَ جَمِيعِ الدُّوَلِ الْعَزِيزَةِ هُوَ أَنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ الْحَقَّ فِي حِمَايَةِ وَطَنِهَا بِحُدُودِهِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ، وَمَا يُعَدُّ سِيَاجًا وَحَرِيمًا لَهُ مِنْ سَوَاحِلِهِ الْبَحْرِيَّةِ، وَمِنْ طُرُقِ الْمَلَاحَةِ وَالتِّجَارَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَأَنَّ الْحَرْبَ الَّتِي تُوقَدُ نَارُهَا لِأَجْلِ هَذِهِ الْحِمَايَةِ، وَمَنْعِ الْعُدْوَانِ هِيَ حَقٌّ وَعَدْلٌ يُقِرُّهُ الْقَانُونُ الدُّوَلِيُّ الْعَامُّ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ بُدٌّ، وَلَا يُعَدُّ مُنَافِيًا لِلْفَضِيلَةِ وَالْحُقُوقِ الْإِنْسَانِيَّةِ بَلْ مُؤَيِّدًا لَهُمَا. وَدُوَلُ الِاسْتِعْمَارِ الْفَاتِحَةُ تَعُدُّ مَا تَتَغَلَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَوْطَانِ سَائِرِ الْأُمَمِ كَوَطَنِ أُمَّتِهَا فِي أَنَّ لَهَا الْحَقَّ فِي حِمَايَتِهِ، وَمَنْعِ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ وَعَلَى طُرُقِهِ الْبَرِّيَّةِ وَالْبَحْرِيَّةِ، فَهِيَ تُبِيحُ لِنَفْسِهَا الِاعْتِدَاءَ بِحُجَّةِ مَنْعِ غَيْرِهَا مِنَ الِاعْتِدَاءِ، كَمَا فَعَلَتِ انْكِلْتِرَهْ فِي الِاعْتِدَاءِ عَلَى مِصْرَ فَالسُّودَانِ، وَمِنْ قَبْلِهِمَا عَلَى عَدَنٍ بِحُجَّةِ حِمَايَةِ طَرِيقِ الْهِنْدِ الَّتِي اعْتَدَتْ عَلَيْهَا مِنْ قَبْلُ، وَبَعْدَ هَذَا وَذَاكَ اعْتَدَتْ عَلَى الْعِرَاقِ وَفِلَسْطِينَ وَشَرْقِ الْأُرْدُنِّ مِنَ الْوَطَنِ الْعَرَبِيِّ، ثُمَّ امْتَدَّ طَمَعُهَا إِلَى الْحِجَازِ نَفْسِهِ، وَهُوَ قَلْبُ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ الْمَادِّيُّ، وَقَلْبُ الْإِسْلَامِ الْمَعْنَوِيُّ، بِجَعْلِ أَهَمِّ ثُغُورِهِ الْحَرْبِيَّةِ وَالْجُغْرَافِيَّةِ (الْعَقَبَةَ) وَأَهَمِّ مَوَاقِعِ سِكَّةِ الْحَدِيدِ الْحِجَازِيَّةِ فِيهِ (مَعَانٍ) وَمَا بَيْنَهُمَا تَابِعًا لِشَرْقِيِّ الْأُرْدُنِّ الَّذِي وَضَعَتْهُ تَحْتَ سَيْطَرَتِهَا بِاسْمِ الِانْتِدَابِ، دَعْ ذِكْرَ الْخَطِّ الْحَدِيدِيِّ الْمُمْتَدِّ مِنْ حُدُودِ الْحِجَازِ إِلَى حِيفَا، فَبِهَذَا انْتَهَكَتْ هَذِهِ الدَّوْلَةُ حُرْمَةَ الْحِجَازِ الْمُقَدَّسَةَ.
وَبِهَذَا صَارَ الْحَرَمَانِ الشَّرِيفَانِ تَحْتَ رَحْمَةِ هَذِهِ الدَّوْلَةِ الْبَاغِيَةِ مِنَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَصَارَتْ هَذِهِ الْبَقِيَّةُ الصَّغِيرَةُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ الدِّينِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ عَلَى خَطَرٍ، فَإِنْ تَمَّ لِهَذِهِ الدَّوْلَةِ الْبَاغِيَةِ هَذَا فَسَتَمُدُّ سِكَّةً حَدِيدِيَّةً تِجَارِيَّةً فِي الظَّاهِرِ عَسْكَرِيَّةً فِي الْبَاطِنِ مِنَ الْعَقَبَةِ إِلَى الْعِرَاقِ، ثُمَّ تَقُولُ عِنْدَ سُنُوحِ الْفُرْصَةِ لِلِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْحَرَمَيْنِ: إِنَّ وُجُودَ قُوَّةٍ إِسْلَامِيَّةٍ فِيهِمَا يُهَدِّدُ سِكَّةَ الْحَدِيدِ الْبِرِيطَانِيَّةِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى الْأَمْنِ عَلَيْهَا إِلَّا بِإِزَالَةِ كُلِّ قُوَّةٍ إِسْلَامِيَّةٍ عَرَبِيَّةٍ مِنْ سَائِرِ الْحِجَازِ أَوْ جَعْلِ الْقُوَّةِ الْمُحَافِظَةِ عَلَى الْأَمْنِ مِنْ تَحْتِ إِشْرَافِهَا وَنُفُوذِهَا.
وَلَوْ كَانَ فِي الْحِجَازِ سُكَّانٌ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ لَفَتَحَتْ لِنَفْسِهَا بَابَ التَّدَخُّلِ فِي أَمْرِ حُكُومَتِهِ بِحُجَّةِ حِمَايَةِ هَؤُلَاءِ السُّكَّانِ، وَلاسيما إِذَا كَانُوا مِنَ النَّصَارَى كَمَا انْتَحَلَتْ لِنَفْسِهَا حَقَّ حِمَايَةِ الْأَقَلِّيَّاتِ غَيْرِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِمِصْرَ، وَكَمَا فَعَلَتْ فِي إِعْطَاءِ الْيَهُودِ حَقَّ تَأْسِيسِ وَطَنٍ قَوْمِيٍّ لَهُمْ فِي فِلَسْطِينَ، وَفِي حِمَايَتِهِمْ فِيهَا بَلْ إِعَانَتِهِمْ وَمُسَاعَدَتِهِمْ عَلَى أَهْلِهَا مِنَ الْعَرَبِ وَأَكْثَرُهُمْ مُسْلِمُونَ، وَكَمَا خَلَقَتْ فِي الْعِرَاقِ أَقَلِّيَّةً مِنْ بَقَايَا الْأَشُورِيِّينَ، وَإِنْ تَمَّ لَهَا الِاسْتِيلَاءُ عَلَى مِنْطَقَةِ الْعَقَبَةِ وَمَعَانٍ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ فَسَتَجْعَلُ جُلَّ مَالِكِي رَقَبَةِ الْأَرْضِ فِيهَا مِنَ الْإِنْكِلِيزِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ لِيَكُونَ لَهَا مِنْ حَقِّ الْحُكْمِ فِيهَا وَالْحِمَايَةِ لَهَا حِمَايَةُ هَؤُلَاءِ السُّكَّانِ فَوْقَ حِمَايَةِ الْأَرْضِ وَسِكَّةِ الْحَدِيدِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ الِاقْتِصَادِيَّةِ، وَالْمَصَالِحِ السِّيَاسِيَّةِ- أَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْبُقْعَةَ الْعَظِيمَةَ مِنْ وَطَنِ الْحِجَازِ الْإِسْلَامِيِّ الْعَرَبِيِّ يُخْشَى أَنْ يَخْرُجَ بِهَا الْحِجَازُ كُلُّهُ عَنْ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا أَوْ إِسْلَامِيًّا، كَمَا يَدَّعُونَ الْآنَ فِي فِلَسْطِينَ.
أَقُولُ: إِنْ تَمَّ لِهَذِهِ الدَّوْلَةِ مَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا يَتِمَّ لَهَا ذَلِكَ (وَلَنْ يَتِمَّ إِنْ شَاءَ اللهُ) فَإِنَّ مَلِكَ الْحِجَازِ وَنَجْدٍ عَارَضَهَا فِي دَعْوَى إِلْحَاقِ هَذِهِ الْمِنْطَقَةِ بِحُكُومَةِ شَرْقِيِّ الْأُرْدُنِّ، وَلَكِنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى إِرْجَاءِ الْبَتِّ النِّهَائِيِّ فِي أَمْرِهَا بِضْعَ سِنِينَ، وَقَدْ أَجْمَعَتْ كَلِمَةُ الْمُؤْتَمَرِ الْإِسْلَامِيِّ الْعَامِّ الَّذِي عُقِدَ فِي مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ سَنَةَ 1344 عَلَى إِنْكَارِ إِلْحَاقِ هَذِهِ الْمِنْطَقَةِ بِشَرْقِيِّ الْأُرْدُنِّ وَوُجُوبِ جَعْلِهَا تَابِعَةً لِلْحِجَازِ، وَتَكْلِيفِ الْمَلِكِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِمُطَالَبَةِ هَذِهِ الدَّوْلَةِ بِإِعَادَتِهَا إِلَى الْحِجَازِ، وَاتِّخَاذِ كُلِّ الْوَسَائِلِ الْمُمْكِنَةِ لِذَلِكَ، وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ أَنْ يُطَالِبَهُ بِذَلِكَ وَيُؤَيِّدَهُ فِيهِ.
هَذَا مُجْمَلُ مَا يَدُورُ فِيهِ الْبَحْثُ بَيْنَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْآرَاءِ السِّيَاسِيَّةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَالْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي مَنْصِبِ الْإِمَامَةِ (الْخِلَافَةِ) وَمَا يَجِبُ عَلَى الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ مِنَ السَّعْيِ لِذَلِكَ، وَإِلَّا كَانَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ عُصَاةً لِلَّهِ تَعَالَى مُسْتَحِقِّينَ لِعِقَابِهِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا وَقَعَ عَلَيْهِمْ عِقَابُهُ فِي الدُّنْيَا بِالذُّلِّ وَالنَّكَالِ، بِفَقْدِ السِّيَادَةِ وَالِاسْتِقْلَالِ، الَّذِي عَمَّ جَمِيعَ الشُّعُوبِ وَالْأَجْيَالِ، إِلَّا هَذِهِ الْبَقِيَّةَ الْقَلِيلَةَ الْفَقِيرَةَ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَهِيَ مُهَدَّدَةٌ فِي كُلِّ آنٍ بِالْخَطَرِ، وَهَذَا السَّعْيُ الْوَاجِبُ لَا يُرْجَى نَجَاحُهُ إِلَّا بِنِظَامٍ سِرِّيٍّ مُحْكَمٍ يُرَاعَى فِيهِ حَالُ الزَّمَانِ، وَاخْتِلَافُ اسْتِعْدَادِ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْحُكُومَاتِ وَالْمَذَاهِبِ وَالْمَشَارِبِ، تَقُومُ بِهِ جَمْعِيَّاتٌ دِينِيَّةٌ وَسِيَاسِيَّةٌ وَخَيْرِيَّةٌ، تُوَجِّهُ جُهُودَهَا كُلَّهَا إِلَى غَرَضٍ وَاحِدٍ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ إِلَّا أَفْرَادٌ قَلِيلُونَ مِنَ الْقَائِمِينِ بِهَا.
وَأَمَّا الْأَمْرُ الْجَهْرِيُّ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ فِي جُمْلَتِهِ وَمُخْتَلِفِ شُعُوبِهِ السَّعْيُ لَهُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ صِيَانَةُ الْحِجَازِ مِنَ النُّفُوذِ الْأَجْنَبِيِّ الَّذِي يُهَدِّدُهُ بِاسْتِيلَاءِ دَوْلَتِيِ انْكِلْتِرَهْ وَفَرَنْسَةَ عَلَى سِكَّةِ الْحَدِيدِ الْحِجَازِيَّةِ، وَبِإِلْحَاقِ مِنْطَقَةِ الْعَقَبَةِ وَمَعَانٍ شَرْقِيَّ الْأُرْدُنِّ الْوَاقِعِ تَحْتَ السَّيْطَرَةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ، بَلْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَفْعَلَ كُلَّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ السَّبِيلِ مِنْ عَمَلٍ إِيجَابِيٍّ أَوْ سَلْبِيٍّ بِالِانْفِرَادِ أَوِ الِاشْتِرَاكِ مَعَ غَيْرِهِ، وَمِنْهُ الْمُقَاطَعَةُ التِّجَارِيَّةُ وَغَيْرُهَا وَبَثُّ الدَّعَايَةِ لِذَلِكَ. أَعْنِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ الْبَدْءُ بِالْجِهَادِ الدِّينِيِّ بِأَنْوَاعِهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ. مِنْ قَوْلٍ، وَمَالٍ، وَنَفْسٍ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَبَثِّ الدَّعْوَةِ لِذَلِكَ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
يَقُولُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْإِحْصَاءِ الْبَشَرِيِّ الْعَامِّ: إِنَّ عَدَدَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ بَلَغَ أَرْبَعَمِائَةِ مِلْيُونِ نَسَمَةٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَهَلْ يَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ وَهُمْ يَمْلِكُونَ مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ مَا يَزِيدُ عَلَى مَسَاحَةِ أُورُبَّةَ كُلِّهَا أَضْعَافًا أَنْ يَكُونُوا أَذَلَّ وَأَحْقَرَ وَأَجْبَنَ مِنَ الْيَهُودِ الصَّهْيُونِيِّينَ الَّذِينَ لَا يَبْلُغُونَ عُشْرَ عُشْرِهِمْ، وَهُمْ يَرَوْنَهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَى انْتِزَاعِ فِلَسْطِينَ مِنْهُمْ؟ وَيَرَوْنَ مَعَ هَذَا أَنَّ حَرَمَ اللهِ تَعَالَى وَحَرَمَ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ مُهَدَّدَانِ بِالْخَطَرِ بَعْدَ ثَالِثِهِمَا وَهُوَ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى، قَدِ انْتَقَصَا مِنْ أَطْرَافِهِمَا، وَاغْتُصِبَتِ السِّكَّةُ الْحَدِيدِيَّةُ الْوَحِيدَةُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَيْهِمَا، وَهُمْ سَاكِنُونَ سَاكِتُونَ، وَدِينُهُمْ يُوجِبُ عَلَيْهِمْ إِعَادَةَ دَارِ الْإِسْلَامِ وَحُكْمِ الْإِسْلَامِ، إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي سَالِفِ الْأَيَّامِ عَلَى اخْتِلَافِ الدَّرَجَاتِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي صَدْرِ هَذَا الْفَصْلِ. فَمِمَّ يَخَافُونَ؟ وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَحْرِصُونَ؟ وَلِمَ يَعِيشُونَ؟.
لَقَدْ دَلَّتْ أَفْعَالُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرْبِ الْعَامَّةِ الْأَخِيرَةِ إِذْ كَانُوا يُقَاتِلُونَ دِفَاعًا عَنْ مُسْتَذِلِّيهِمْ وَمُسْتَعْبِدِيهِمْ وَدَلَّتِ الثَّوْرَةُ الْعَرَبِيَّةُ الْحِجَازِيَّةُ أَثْنَاءَ الْحَرْبِ، وَالثَّوْرَاتُ الْمِصْرِيَّةُ فَالْعِرَاقِيَّةُ فَالسُّورِيَةُ فَالْمَغْرِبِيَّةُ الرِّيفِيَّةُ بَعْدَ الْحَرْبِ الْعَامَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ أَشْجَعَ الْأُمَمِ وَأَشَدَّهَا احْتِقَارًا لِهَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلاسيما الْعَرَبُ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا كَانَ سَبَبُ كُلِّ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ وَالشَّقَاءِ وَفَقْدِ الِاسْتِقْلَالِ أَوَّلًا وَآخِرًا- فَسَادَ رُؤَسَائِهِمْ وَخِيَانَةَ أُمَرَائِهِمْ، وَجَهْلَ عَامَّةِ دَهْمَائِهِمْ، وَقَدْ آنَ لِلْجَاهِلِ أَنْ يُعَلَّمَ، وَلِلْفَاسِدِ أَنْ يَصْلُحَ وَلِلْخَائِنِ أَنْ يَتُوبَ أَوْ يُقْتَلَ.
فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ تَدَبَّرُوا قَوْلَ رَبِّكُمُ الْعَزِيزِ الْقَدِيرِ، الْوَلِيِّ النَّصِيرِ، الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [30: 47] {إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [47: 7] {وإِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [40: 51] و{وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [4: 141] و{وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ} [22: 47] وَلَكِنَّكُمْ نَقَضْتُمْ عَهْدَهُ {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [24: 31] و{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [3: 139].
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُواْ نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ [29] السَّابِقَةِ لِهَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ الْمُرَادَ بِهِمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ تَعَالَى عَلَى الْوَجْهِ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ مِنْ تَوْحِيدٍ وَتَنْزِيهٍ لِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ- عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّ النَّاسَ يُبْعَثُونَ بَشَرًا كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا، أَيْ أَجْسَادًا وَأَرْوَاحًا، وَأَنَّهُمْ يُجْزَوْنَ بِإِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَعَلَيْهَا مَدَارُ سَعَادَتِهِمْ وَشَقَائِهِمْ، لَا عَلَى أَشْخَاصِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ- وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمْ إِيمَانًا وَإِذْعَانًا، وَعَمَلًا، وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ أَيْ: إِنَّمَا يَتَّبِعُونَ تَقَالِيدَ وَجَدُوا عَلَيْهَا آبَاءَهُمْ وَأَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ. فَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى هَذَا فِي سِيَاقِ قِتَالِهِمْ وَمَا يُنْتَهَى بِهِ إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَدَاءُ الْجِزْيَةِ بِشَرْطِهَا- عَطَفَ عَلَيْهِ مَا يُبَيِّنُ مُبْهَمَهُ، وَيُفَصِّلُ مُجْمَلَهُ، وَيُبَيِّنُ غَايَتَهُ، وَهُوَ هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ} إِلَخْ نَبْدَأُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ تَارِيخِ عُزَيْرٍ هَذَا، وَمَكَانَتِهِ عِنْدَ الْقَوْمِ ثُمَّ بِبَيَانِ مَنْ سَمَّوْهُ ابْنَ اللهِ مِنَ الْيَهُودِ، وَنُقَفِّي عَلَى ذَلِكَ بِذِكْرِ قَوْلِ النَّصَارَى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ وَتَفْنِيدِهِ، ثُمَّ مَنْ قَالَ بِمِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ الْقُدَمَاءِ، وَهُوَ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ: وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا مُفْصَلًا فِي تَفْسِيرِ سُورَتَيِ النِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ.
عُزَيْرٌ هَذَا هُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ (عِزْرَا) وَالظَّاهِرُ أَنَّ يَهُودَ الْعَرَبِ هُمُ الَّذِينَ صَغَّرُوا بِالصِّيغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لِلتَّحْبِيبِ وَصَرَفُوهُ، وَعَنْهُمْ أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ، وَالتَّصَرُّفُ فِي أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ الْمَنْقُولَةِ مِنْ لُغَةٍ إِلَى أُخْرَى مَعْرُوفٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ، حَتَّى إِنَّ اسْمَ يَسُوعَ قَلَبَتْهُ الْعَرَبُ فَقَالَتْ عِيسَى وَهُوَ كَمَا فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ السَّابِعِ مِنَ السِّفْرِ الْمَعْرُوفِ بِاسْمِهِ عِزْرَا بْنِ سَرَايَا بْنِ عِزْرِيَا بْنِ حِلْقِيَا- وَسَاقَ نَسَبَهُ إِلَى الِعَازَارِ بْنِ هَارُونَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ).
جَاءَ فِي دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْيَهُودِيَّةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ (طَبْعَةَ 1903) أَنَّ عَصْرَ عِزْرَا هُوَ رَبِيعُ التَّارِيخِ الْمِلِّيِّ لِلْيَهُودِيَّةِ الَّذِي تَفَتَّحَتْ فِيهِ أَزْهَارُهُ وَعَبَقَ شَذَا وَرْدِهِ. وَأَنَّهُ جَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ هُوَ نَشْرَ الشَّرِيعَةِ (وَفِي الْأَصْلِ عَرَبَةَ أَوْ مَرْكَبَةَ الشَّرِيعَةِ) لَوْ لَمْ يَكُنْ جَاءَ بِهَا مُوسَى (التِّلْمُودَ، 21 ب) فَقَدْ كَانَتْ نُسِيَتْ وَلَكِنَّ عِزْرَا أَعَادَهَا أَوْ أَحْيَاهَا، وَلَوْلَا خَطَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ لَاسْتَطَاعُوا رُؤْيَةَ الْآيَاتِ (الْمُعْجِزَاتِ) كَمَا رَأَوْهَا فِي عَهْدِ مُوسَى. اهـ. وَذُكِرَ فِيهَا أَنَّهُ كَتَبَ الشَّرِيعَةَ بِالْحُرُوفِ الْأَشُورِيَّةِ وَكَانَ يَضَعُ عَلَامَةً عَلَى الْكَلِمَاتِ الَّتِي يَشُكُّ فِيهَا- وَأَنَّ مَبْدَأَ التَّارِيخِ الْيَهُودِيِّ يَرْجِعُ إِلَى عَهْدِهِ.
وَقَالَ الدُّكْتُورُ جُورْجْ بُوسْتْ فِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ: عِزْرَا (عَوْنٌ) كَاهِنٌ يَهُودِيٌّ وَكَاتِبٌ شَهِيرٌ سَكَنَ بَابِلَ مُدَّةَ مُلْكِ (ارْتَحْشِشْتَا) الطَّوِيلِ الْبَاعِ، وَفِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ لِمُلْكِهِ أَبَاحَ لَعِزْرَا بِأَنْ يَأْخُذَ عَدَدًا وَافِرًا مِنَ الشَّعْبِ إِلَى أُورْشَلِيمَ نَحْوَ سَنَةِ 457 ق. م (عِزْرَا ص7) وَكَانَتْ مُدَّةُ السَّفَرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.
(ثُمَّ قَالَ) وَفِي تَقْلِيدِ الْيَهُودِ يَشْغَلُ عِزْرَا مَوْضِعًا مُهِمًّا يُقَابَلُ بِمَوْضِعِ مُوسَى وَإِيلِيَّا وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ أَسَّسَ الْمَجْمَعَ الْكَبِيرَ، وَأَنَّهُ جَمَعَ أَسْفَارَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، وَأَدْخَلَ الْأَحْرُفَ الْكَلْدَانِيَّةَ عَوْضَ الْعِبْرَانِيَّةِ الْقَدِيمَةِ، وَأَنَّهُ أَلَّفَ أَسْفَارَ الْأَيَّامِ وَعِزْرَا وَنِحْمِيَا.
(ثُمَّ قَالَ) وَلُغَةُ سِفْرِ عِزْرَا مِنْ ص4: 8- 6: 19 كَلْدَانِيَّةً، وَكَذَلِكَ ص7: 1- 27 وَكَانَ الشَّعْبُ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ مِنَ السَّبْيِ يَفْهَمُونَ الْكَلْدَانِيَّةَ أَكْثَرَ مِنَ الْعِبْرَانِيَّةِ. اهـ.
وأقول: إِنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَ مُؤَرِّخِي الْأُمَمِ حَتَّى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْهُمْ أَنَّ التَّوْرَاةَ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَوَضَعَهَا فِي تَابُوتِ الْعَهْدِ أَوْ بِجَانِبِهِ (تث 31: 25، 26) قَدْ فُقِدَتْ قَبْلَ عَهْدِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ لَمَّا فُتِحَ التَّابُوتُ فِي عَهْدِهِ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ غَيْرُ اللَّوْحَيْنِ الَّذَيْنِ كُتِبَتْ فِيهِمَا الْوَصَايَا الْعَشْرُ كَمَا تَرَاهُ فِي سِفْرِ الْمُلُوكِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّ (عِزْرَا) هَذَا هُوَ الَّذِي كَتَبَ التَّوْرَاةَ وَغَيَّرَهَا بَعْدَ السَّبْيِ بِالْحُرُوفِ الْكَلْدَانِيَّةِ وَاللُّغَةِ الْكَلْدَانِيَّةِ الْمَمْزُوجَةِ بِبَقَايَا اللُّغَةِ الْعِبْرِيَّةِ الَّتِي نَسِيَ الْيَهُودُ مُعْظَمَهَا. وَيَقُولُ أَهْلُ الْكِتَابِ: إِنَّ (عِزْرَا) كَتَبَهَا كَمَا كَانَتْ بِوَحْيٍ أَوْ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللهِ. وَهَذَا مَا لَا يُسَلِّمُهُ لَهُمْ غَيْرُهُمْ وَعَلَيْهِ اعْتِرَاضَاتٌ كَثِيرَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي مَوَاضِعِهَا مِنَ الْكُتُبِ الْخَاصَّةِ بِهَذَا الشَّأْنِ حَتَّى مِنْ تَآلِيفِهِمْ كَذَخِيرَةِ الْأَلْبَابِ لِلْكَاثُولِيكِ وَأَصْلُهُ فَرَنْسِيٌّ، وَقَدْ عَقَدَ الْفَصْلَيْنِ الْحَادِيَ عَشَرَ وَالثَّانِيَ عَشَرَ لِذِكْرِ بَعْضِ الِاعْتِرَاضَاتِ عَلَى كَوْنِ الْأَسْفَارِ الْخَمْسَةِ لِمُوسَى، وَمِنْهَا قَوْلُهُ:
(7- جَاءَ فِي سِفْرِ عِزْرَا 4 ف14 عَدْ 21) أَنَّ جَمِيعَ الْأَسْفَارِ الْمُقَدَّسَةِ حُرِّقَتْ بِالنَّارِ فِي عَهْدِ نُبُوخَذْ نَصْرَ حَيْثُ قَالَ: إِنِ النَّارَ أَبْطَلَتْ شَرِيعَتَكَ فَلَمْ يَعُدْ سَبِيلٌ لِأَيِّ امْرِئٍ أَنْ يَعْرِفَ مَا صَنَعَتْ اهـ. وَيُزَادُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ عِزْرَا أَعَادَ بِوَحْيِ الرُّوحِ الْقُدُسِيِّ تَأْلِيفَ الْأَسْفَارِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي أَبَادَتْهَا النَّارُ وَعَضَّدَهُ فِيهَا كَتَبَةٌ خَمْسَةٌ مُعَاصِرُونَ. وَلِذَلِكَ تَرَى ثِرْثُولْيَانُوسْ، وَالْقِدِّيسَ ايرْيَنَاوْسْ، وَالْقِدِّيسَ ايْرُونِيمُوسْ، وَالْقِدِّيسَ يُوحَنَّا الذَّهَبِيَّ، وَالْقِدِّيسَ بَاسِيلْيُوسَ وَغَيْرَهُمْ يَدَّعُونَ عِزْرَا مُرَمِّمَ الْأَسْفَارِ الْمُقَدَّسَةِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ الْيَهُودِ. اهـ.